الموضوع :
{ سلسلة دروس في الحكمة الإلهية من خلْق آدم عليه السلام وهبوطه للدنيا }
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)) البقرة
الكاتب : خالد بن عايض الأسمري
اليوم : الثلاثاء
التاريخ : 15 / 11/ 1435 هـ
مختصر الموضوع :
(( الدرس الأول ))
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ }( ٣٠ ) سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ،هو الأول فليس قبله شيء وهو الآخر فليس بعده شيء ، والصلاة والسلام على نبي الهدى ورحمة الله للعالمين ، محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه الطاهرين ، وعلى كافة أنبياء الله ورسله أجمعين ، وعلى من اتبع هداهم إلى يوم الدين ،،،، اللهم آمين
قبل أن نبدأ دروس تأملاتنا في آيات الحكيم الخبير سبحانه يجب أن نفهم مراحل الطريق الذي سنسلكه في تأملاتنا والذي يمر بثلاث مراحل أساسية ( التأمل + التفكر + التدبر )
بسم الله الرحمن الرحيم
التعريف :-
التأمل
يُعٓرّف التأمل اصطلاحاً لغوياً بــ .. ( تأمل يتأمل تأملاً. . المصدر ، أمل .. جمعها آمال ، وجمع الفعل تأملات ) : يقال تأملات في كذا ... والتأمل هو النظر إلى الشيء بتمعّن لاستجماع كامل الأفكار حوله ، وتهيئة العقل والنفس للإرتباط به وترك ما سواه ،،
مثال للتعريف :- يُعَالج الإنسان الذي يشكو من ارهاق فكري بجلسات تأمليه من خلال وضعه في طبيعة مليئة بالطيور وبأصوات المياه المتدفقة والشجر الأخضر ، وهدف هذا العلاج هو استجماع كامل أجزاء العقل ( الذاكرة والحاسبة والأجزاء المسئولة عن اتخاذ القرارات وغيرها ) لتركز على شيء واحد ، الطبيعة ، حيث أن الطبيعة مصدر رئيسي للسكينة والهدوء
إذاً فأول مرحلة ، وأولى خطواتنا لفهم الآية الكريمة هي التأمل فيها ، وإمعان النظر فيها وتكرار قرائتنا لها دون صوت لعدة مرات إلى أن نرى من أنفسنا سكون وهدوء تام ، ونرى أنه لم يعد يشغل تفكيرنا في تلك اللحظة أي شي آخر غيرها .
وبذلك نبدأ المرحلة الثانية وهي التفكر ، بسكينة ،،، وهي شرط أساسي للتعامل مع كلام المولى سبحانه وتعالى لفهمه وإدراك ما شاء الله لنا أن ندرك منه .
****
التفكر
يُعٓرّف التفكر اصطلاحاً لغوياً بــ .. ( تفكر يتفكر تفكراً .. المصدر ، فكر .. جمعها أفكار ، وجمع الفعل منها أفكار ): يقال تفكر في حل المشكلة ، أي جد للمشكلة أو المسألة حلاً. بفكرك.
والتفكر هو إعمال العقل المجرد من الحس والأحاسيس في شيءٌ ما لمعرفة حقائقه الظاهرة والخفية للوصول للفهم الكامل لها عقلياً .
مثال للتعريف :- يتم تمرين الطلاب في المدارس والجامعات قواعد اللغة العربية ليتم تعويد الذهن على تكوين جمل وخطابات بلغة صحيحة خالية من الأخطاء ، فيتخرج الطالب وقد أصبحت القواعد اللغوية جزءً منه فيصبح تعامله بعد ذلك مع أي جمله أو خطاب من منطلق القواعد اللغوية التي ترسخت في ذهنه ، متجرداً في التعامل معها من كل إحساس قد يشوش على قراره وحكمه على صحتها من عدمه .
إذاً فثاني مرحلة ، وثاني خطواتنا مع الآية الكريمة هو فهمها فهماً لغوياً ، مجرداً من المشاعر والأحاسيس والأهواء ، لأن الأحاسيس كثيراً ما تؤثر سلباً على الفهم اللغوي من منطلق كثرة اللهجات ،
ولتفادي تأثير الأحاسيس والأهواء سيتم التعامل مع الألفاظ القرآنية من خلال القواميس ( كلسان العرب لإبن منظور ، وغيره ).
****
التدبر
يُعٓرّف التدبر اصطلاحاً لغوياً بــ .. ( تَدَبّر يتَدَبّرُ تٓدَبُرً .. المصدر ، دُبُرْ ( أي خلف أو بعد ) .. جمعها دُبُرْ ، وجمع الفعل منها تدابير ) يقال يتدبر أمره ، و إتخذوا التدابير اللازمة لذلك الأمر . أي استعدوا لذلك الأمر تدابير وقائية أو مناسبة له .
فالتدبر هو اتخاذ القرار الصحيح لفعل تدابير تتناسب مع أمرٍ مستقبلي سوف يحدث
مثال التعريف :- يتم تدريب القادة الحربيون من خلال تنمية قدراتهم على قراءة نتائج الخطط العسكرية والحربية لإتخاذ التدابير اللازمة في كل حالة وفي كل معركة وفق قرائتهم للموقف الراهن وتحليل ماهي احتمالياته
إذاً فثالث مرحلة ، ثالث خطواتنا في فهم المراد من الآية الكريمة هي بتدبر عاقبة مخالفة أوامرها ونواهيها ، وتدبر جوانب الظفر بحال تم تنفيذ أوامرها واجتناب نواهيها
بهذا أحبتي في الله عرفنا السبيل الصحيح الذي سنسلكه في تعاملنا مع الآية الكريمة ، والذي يبدأ بالتأمل ، ثم التفكر ، ثم التدبر ...
فعلى بركة الله ننطلق
–------------------------------------------------------------------------------------
هام جداً
[[ قبل أن تتجاوز هذه النقطة قم حفظك الله بقراءة الآيات من { وإذ قال ربك للملئكة إني جاعل في الارض خلفيه }الآية ٣٠ من سورة البقرة إلى قوله تعالى { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أُلئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ٣٩ من سورة البقرة ،،، وليكن ذلك بهدوء تام وسكينة واجعل قراءتك في نفسك بدون صوت عِدّة مرات حتى تحس من نفسك اطمئنان وسكينة وخشوع ]]
الجزء الأول ٢٠ / ١١ / ١٤٣٥ هجري
يقول المولى عزوجل في الآية الكريمة ،، { وإذ قال ربك للملائكة :- [ إني جاعلٌ في الأرض خلفيه ] } ،،
١- ( وإذ ) .. تفيد المفاجأة ، - يقال بينما نحن جالسون تحت الشجره إذ سقط علينا منها غصن
٢- ( قال ) .. فعل ماضي ، - قال لي فلان يوم أمس كذا وكذا ،،،
٣- ( للملائكة ) .. اللام حرف اختصاص ، الملائكة غنيون عن التعريف ( تعريف المعروف تجهيل له ) ،
٤- ( إني ) .. إن ، حرف مشبّه بالفعل للتوكيد ، والياء ضمير
٥- (جاعل) خبر مرفوع
٦-(في الأرض) جارّ ومجرور متعلّق ب (جاعل).
يخبرنا المولى سبحانه أنه اختص الملائكة دون غيرهم ، مفاجئاً إياهم بقراره أنه جل في علاه قد قرر أن يجعل في الأرض خليفة ، فكلمة ( إذ ) هنا تفيد المفاجأة . وللمفاجأةِ هنا سبب ، وهو أن أصدق ردود الأفعال ، هي التي تأتي كـ .. ردّةُ فعل على فعلٍ مفاجئ . حيث أراد المولى عز وجل أن يُظْهِر الملائكة ما كانوا يكتمونه في صدورهم بشكلٍ فطري ، ولم يقدروا على إظهاره حياءً وخشيةً وتقديساً لله سبحانه ، ليكون ذلك الإظهار ، فضحاً صارخاً لإبليس الذي آتاه الله قدرات وهبات عظيمة فاستغلها في السوء والعصيان والغرور ، الا وهي القدرة على الوسوسة أي مخاطبة النفوس والقدرة على التأثير فيها بشكل مباشر وخفي ،
فلماذا أراد الله كشف الستر عما كان مستوراً في صدور الملائكة عليهم السلام ، إن لم يكن بهدف تنقيتهم من شائبةً لحقت بهم وهي ليست منهم ، وفضح من كان سبباً في حدوثها ..؟
** يقول الحكيم الخبير { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون " وما كُنْتُمْ تكتمون " } فماذا كان الملائكة عليهم السلام يكتمون في صدورهم ..؟ وما هذا الأمر الذي خشي الملائكة إظهاره ..؟ وهل يُسْتٓر ويخفى إلا كل عيب يُكره أن يظهر للعلن ..؟ فما هو العيب الذي كان الملائكة عليهم السلام يكتمونه في صدورهم ويخشون ظهوره ..؟
** ويقول جل من قائلٍ كريم { وإذ قال ربك " للملائكة " } فلماذا اختص الملائكة بالذات دوناً عن بقية الملأ الأعلى بإخبارهم بهذا الخبر ..؟ ثم لماذا أدخل إبليس في الملائكة وهو ليس منهم ؟ إذ كان الأمر بالسجود للملائكة وفاجأ ابليس بقوله الكريم ( مالك أن لاتكون مع الساجدين ..؟ ) في قوله تعالى { فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين }
** قال تعالى { إذ قال ربك للملائكة:إني خالق بشراً من طين - ٧١ - فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين - ٧٢ - } سورة ص
ماهي الحكمة من إنشاء خلقٍ جديد ..؟ ولماذا من مادةٍ وضيعةٍ كالطين ..؟ ثم لماذا تم تشريفه بجعله مستودعا فيه من روح الله سبحانه ..؟ ثم ماهي الحكمة من أمر الملائكة المخلوقون من نور الله بأن يسجدوا لمن خلق من طين لازب ، وكيف يسجد الأشرف خلقاً لمن هو أدنى خلقاً إلا إن كان ذلك الأدنى به شيءٌ يجعله أشرف منه " وهي روح الله أصل النور " ثم ما سبب كل ذلك ؟ وما الحكمة من وراءه ..؟
الإجابة على كل الأسئلة السابقة هي ( إن الحكمة من كل ذلك هو إعادة ترتيب مراتب الخلق تشريفاً بالقرب من الله إلى أدنى الخلق بناءً على الطاعة والإيمان التي مصدرهما الخضوع والخشوع والخشية لله الخالق سبحانه وتعالى ، بدلاً من القاعدة السابقة للتشريف المبنية على نوع الخلق نفسه ،، والله أعلم
فبعد أن كان الطين في قاع الترتيب وهو الذي تطأه الأقدام ، وإبليس المخلوق من سنا النار ، والملائكة هم الأعلى منزلةً فهم المخلوقون من نور الله ،،، أصبح ابليس المخلوق من سنا النار في الدرك الأسفل برغم شرف عنصر خلقه بسبب كفره بالله وعصيانه لأمر الله سبحانه ، وأصبح الملائكة عليهم السلام موٓكْلون بخدمة الطين وهم المخلوقون من عنصر عالي الشرف وهو نور الله لأن الله جل في علاه وشرّف الطين بالروح الإلهية المنفوخة فيه وهي أشرف من النور لأنها مصدره وأساسه ، فبذلك يسجد الفرع للأصل ، حيث يسجد المخلوق من نور الله للطين الذي يحمل روح الله التي هي منبع النور المخلوق منه الملائكة . فسبحانك اللهم من حكيم خبير
-- ( تتمه ) ٢١ / ١١ / ١٤٣٥هـ --
إن سبب إعادة الترتيب بهذا الشكل هو ماكان في صدور الملائكة عليهم السلام ويخشون ظهوره من خشية الله ، وحق لهم خشيته سبحانه وتعالى ، وأن إبليس كان في منزلة شريفة في الملائكة برغم أنه مخلوق من غير ما خُلق منه الملائكة . ونعلم جميعنا أن الله تعالى قد وهب إبليس هبة عظيمة وهي القدرة على الوصول إلى القلوب التي في الصدور والوسوسة فيها ، وهذه الهبة أعطاعا الله لإبليس قبل أن يخلق الله آدم عليه السلام .. حيث أنه لا يعقل أن يهب الله هذه الهبة لإبليس بعد أن عصاه ، والصحيح إدراكاً عقلياً منطقياً أن هذه. الهبة الإلهية كانت لإبليس من قبل ان يعصي الله ، وبذلك فإنه يظهر أنه استخدم هذه الهبة في غير محلها ونَفَذَ بها ( بإذن الله تعالى ) إلى صدور الملائكة ، فحاك شيءٌ في صدورهم عليهم السلام دون أن يعلموا أنها وساوس ابليس نزغها في نفوسهم فهي تحترك في صدورهم على مضض منهم ، وهم يخفونها كرهاً لها وتقديساً لله وخشيةً منه سبحانه ، فهي كقطرة الزيت في الماءٍ الصافي . فأراد الله جل في علاه وتمجْد أن ينقي الملائكة الأطهار من دنس ابليس ( نستجير بالله منه ) ويخرجها من صدورهم ، فأتى سبحانه وتعالى بآدم عليه السلام من أسفل الخلق أجمعين ، من تراب الأرض الدنيا ، فكوّنه صلصالاً كالفخار ، وألبثه على هذا الحال قبل أن ينفخ فيه من روحه سبحانه ما شاء الله أن يلبثه ، ثم جمع سبحانه وتعالى المعنيين بالأمر وهم الملائكة فأخبرهم بذلك الخبر ( إني جاعلٌ في الأرض خلفيه ) .
فما كان من الملائكة عليهم السلام إلا أن ردوا على الخبر ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ). سؤالٌ استنكاري اعتراضي .
عن أي خلقٍ خرج ؟ خرج عن الملائكة الذين امتدحهم ربهم سبحانه فقال عنهم ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) ، الملائكة الأنقياء ،
إذاً فقد استجد في الأمر شيءٌ ليس منه ، وهذا ما أنبأنا الله سبحانه وتعالى به عندما قال للملائكة ( قال إني أعلم مالا تعلمون ) ثم قال سبحانه ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كُنْتُمْ صــادقين ) صادقين في ماذا ؟ صادقين في إدعــائكم علم الغيب ؟ رد الملائكة على تحــدي الله لهم ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) ثم قال لهذا الأمر تحديداً ( وأعلم ما تبدون وما كُنْتُمْ تكتمون ).
[ فائده ] يقول سبحانه وتعالى ( يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي )
عندما تحدى الله سبحانه الملائكة ( فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كُنْتُمْ صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال [ يا آدم " أنبئهم " بأسمائهم ] ).. أنبئهم = هذا أمر من الله لآدم عليه السلام وتم نفخ الروح في جسد آدم عليه السلام كجزء من هذا الأمر ( أنبئهم ) . ( قل الروح من أمر ربي )
يسألونك يا محمد عن الروح التي بين حناياهم من أين أتت ، قل لهم أن هذه الروح أتت كجزء من أمر الله لآدم عليه السلام بالإنباء
نعود لإبليس الذي هو محور هذا الحدث ومركز هذه القصة ، إن إستخدامه لهبة الله له في الشر العظيم ، بدلاً من أن يستخدمه فيما يرضي ربه ، كان سبباً رئيساً لهذه القصة ، والله خير الماكرين .
كم فرصة أعطى الله سبحانه وتعالى لإبليس ليتوب ويثوب إلى ربه ويعود إلى رشده ويدع غيه وكفره ..؟ لنعدها معاً :-
١- عندما أعلن الله سبحانه وتعالى للملائكة ( إني جاعلٌ في الأرض خيلفه ) هذا إنذاراً بأنه سينشيء سبحانه خلقاً جديداً وبالتالي سيكون هنالك إعادة ترتيب لمستويات الخلق ؟ وهذا الانذار الأول
٢- عندما أمر الله الملائكة أن ينبئوه بأسماء هؤلاء ، في تحدٍ لهم أن ليس لهم من علم الغيب إلا ما علمهم به ، وأقروا بذلك قبل أن يأمر الله آدم بأمر الإنباء ، ثم بيّن علمه حتى لمافي الصدور في قوله تعالى ( وأعلم ما كُنْتُمْ تكتمون ) وهذا تنبيه لإبليس بأن الله يعلم بما حدث فعلاً وأن الله لاتخفى عليه خافية حتى بما في الصدور .؟ وهذا الإنذار الثاني
٣- عندما أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام ، وهذا إنذار أخير لإبليس .؟ وهو الإنذار الثالث
- ولو أعدنا النظر إلى الفرص الثلاث مرةً أُخرى لوجدنا تدرجاً في التنبيه من السر إلى العلن ، فالأولى كانت بسريةٍ تامة وبِسِتّرٍ تام ، فلو تاب في الأولى لم يكن ليعلم أحد ، والفرصة الثانية وجب أن يتحدث فيها بلسانه ويقول مع الملائكة مثلما قالوا معترفاً بذنبه ولم يكن ليعلم أحد مثل الأولى غير أنه في الثانية وجب أن يظهر توبته لله بلسانه ، أما في الفرصة الثالثة فتوجب عليه أن تكون توبته بكامل أعضاءه في سجود لآدم عليه السلام
هذا والله أعلم ،،،
-- ( تتمه ) ٢٤ / ١١ / ١٤٣٥هـ --
وجاء الفضح العلني لإبليس ( نسأل الله أن يسترنا بستره ، وأن لايفضح عيوبنا كما فضح ابليس ) وذلك في قوله الكريم { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } وفي قوله سبحانه { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ } فكانت الحقيقة الصارخة تخرج من فم عدو الله ورسوله وعدو خلق الله أجمعين إذ قال { قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }
فكان الرد من العدل الحكيم { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } وقال تعالى له أيضاً { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) }
لقد طلب إبليس من الله سبحانه أن يمهله إلى يوم البعث ، فقال له سبحانه ( فإنك من المُنظرين ) وهذا يدلنا على أن هناك من خلق الله في الأرض من هم منظرين ، ولولا ذلك لقال سبحانه لإبليس ( إنك مُنظر ) ، ثم أنبأنا ربنا سبحانه أنه لم يجيب ابليس على سؤله لله ( إلى يوم يبعثون ) إنما أمهله جل جلاله إلى يوم الوقت المعلوم عند الله سبحانه فقط .. فترك الله إبليس في حال ترقب وانتظار دائمين وكل يوم يتوقع ابليس أنه آخر يوم وأن يوم غد ربما يكوم هو اليوم المعلوم عند الله المجهول عند خلقه ومن بينهم ابليس نفسه ، وهذه رحمة من الله لنا .. فلو علم ابليس ذلك اليوم لكان ذلك أشد وطأةً على بني آدم ، لأن في ذلك أمان لإبليس وبالتالي صفاء ذهنه مما يزيد حبكات فتنته وإغوائه لبني آدم . إذ قال لله سبحانه مهدداً لنا بالغواية { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ٣٩ )إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) } .
انتهت المرحلة الأولى من القصة ، وانفض الجمع على ترتيب جديد يترأسه آدم وذريته بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن تسجد لآدم وذريته التي كانت في ظهره لقوله سبحانه { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172) } ، فبسجود الملائكة لآدم عليه السلام وذريته التي في ظهره انتهت التراتيب وأصبح آدم وذريته في أعلى القائمة بين الخلق أجمعين .
ذلك قبل أن يدخلنا الله الجنة ونعصي الله ربنا بأكلنا من الشجرة مع أبونا آدم ، إذ كنا جزء منه عليه السلام ( وليس طول عمر أحدنا وقصر عمر الآخر إلا بمقدار ما أكل كل واحد من تلك الشجرة ) ، فعلى قدر ما أكل كل واحد من ذرية آدم من الشجرة على قدر طول بقاءه في الدنيا التي هي دار استشفاء من ذلك المرض الرهيب الذي طالنا جراء أكلنا من تلك الشجرة التي ما نهانا الله عن الأكل منها إلا لعلمه سبحانه وتعالى بـ فسادها وقدرتها على إفساد الإنسان ، فالجنة هي دارنا ودار أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلام والدليل قوله تعالى { اسكن أنت وزوجك الجنة } وما الدنيا بدار قرار لنا لأن نزولنا فيها ليس إلا للإستشفاء من مرض الشجرة المحرمة والدليل قوله تعالى { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتع إلى حين } ، فَسَكَنُنا هو في الجنّة ، واستقرارنا المؤقت إلى حين هو في الأرض ، إذ أننا عندما أكل أبونا آدم من الشجرة المحرمة وكنا آنذاك في ظهره ومَرّ بنا ما أكل أبونا آدم من الشجرة فأكلنا منها بإختيارنا وكُلّ واحدٍ منا أكل بِقَدَرٍ مُعَيّن يختلف عن غيره لذلك صارت أعمارنا في الدنيا بحسب ما أكل كل واحدٍ منا ، لأننا كنا خلقاً عاقلاً مُكٓلّفاً مُخَيّراً ، والدليل على ذلك في قولنا الذي أجبنا به ربنا عندما سألنا عندما أخرجنا من ظهر أبونا آدم[ ألستُ بربكم ؟ ] فقلنا ( بلى ) ثم أكدنا عقلانيتنا وإدراكنا بإضافةٍ أضفناها من عند أنفسنا ولم تكن من ضمن سؤال الله وهي ( الشهادة ) .. فقلنا ( شَهِدْنَا ) دون أن يسألنا الله عزّ وجلّ [ أتشهدون ؟ ] ، ولو اكتفينا بكلمة ( بلى ) لوحدها لكَفَتْ . ولكننا أضفنا ( شهدنا ) لنؤكد فهمنا وإدراكنا لما قلنا ( بلى أنت ربنا ) وأننا ( شهداء على كلامنا هذا ) ،
-- ( تتمه ) ٢٤ / ٣ / ١٤٣٩هـ --
ابتدأت المرحلة الثانية من القصة بدخول آدم عليه السلام للجنة ، بأمر الله سبحانه وتعالى بأن الجنة هي سكنٌ لآدم وذريته ومعه زوجه حواء عليهما السلام { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ(35) }
السكن :- هو الاستكانة .. يقال استكان فلان في المكان ، أي سكن فيه سكن إقامة مالك له .
والاستقرار :- هو القرار المؤقت .. يقال استقريت في المكان .. أي نزلت به نزولٌ مؤقت ثم مضيت وتركته لأنه ليس بسكنٍ لي ولا أمتلكه
دخل أبونا آدم الجنة كَمَالِكٍ لها ساكناً فيها هو وزوجه حواء عليهما السلام .. ولكن وضع الله شرطاً لسُكناهم سكوناً أبدياً بها وهو ( أن لا يأكلا من الشجرة المحرمة ) .. ولذلك حكمة عظيمة من الله عز وجل .. إذ أنه ابتلى جميع خلقه السابق من الملائكة والجن وغيرهم ابتلاءً وامتحان ليتحدد مكان ومكانة كل خلق بناءً على نتيجته في الامتحان كما حدث للملائكة ولأبليس في بداية الآية الكريمة ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلُ في الأرض خليفة .... إلى قوله سبحانه إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين )
لذلك جرى على آدم وذريته ما جرى على من خلق الله قبلنا .. إمتحان وابتلاء يُثَيّت أهل الطاعة والإمتثال لأمر الله في مكانتهم العَلِيّةَ في الجنة ، ويُنْزِلُ أهل العصيان وعدم الامتثال لأمر الله إلى أسفل سافلين كما ورد في قوله تعالى ( ثم رددناه إسفل سافلين ) إلا اللذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أي الذين يتبعون ما أنزل الله من أوامر ونواهي فأولئك يعيد الله رفع مكانتهم إلى سكناهم الأول وهو الجنة في المقام العالي ...
دخل أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلام إلى الجنة ونحن معهما في ظهر أبونا آدم ، ولبثنا في الجنة ما شاء الله لنا أن نلبث إلى أن أكل أبونا آدم من الشجرة المحرمة .. فَمَرّر الله جل في علاه ذلك المأكل من تلك الشجرة علينا ونحن في ظهر أبونا آدم فمنا من أكل ومنا من لم يأكل ، فأما من أكل فهبط مع أبونا آدم إلى الأرض ليستشفي من ذلك الإثم الذي أصابه بسبب أكله من الشجرة المحرمة ، أما من لم يأكل فقد عاد ولم يلبث في الدنيا لحظة واحدة ، منهم ذُرّية عَمّنا ( هابيل عليه السلام ) الذين لم يخرجوا من ظهره وكذلك ذُرّيات كثر في ظهور أبناء آدم الذين ماتوا ولم يخرج الله ذراريهم من ظهورهم ليعودوا إلى الله دون أن يظهروا إلى الدنيا ، ومن الذين أكلوا من الشجرة من أستطعم منها نُزُرٌ يسير جداً فيموت قبل أن يبلغ سن التكليف أو وهو رضيع وبين ذلك ، وكلما زاد مقدار ما أكل الإنسان من تلك الشجرة كلما طال بقاؤه في الحياة الدنيا .. وهذا العدل بين عباد الله فلا يأتي أحدٌ ليُحَاجّ الله سبحانه بطول عمر غيره وقِصَر عمره .. لأن طول العمر وقصرة يرجع لمقدار ما أكل الإنسان بملء إرادته هو وبإختياره هو .. فالحجة عليه هو قائمة في ذلك .. والله تعالى أعلى وأعلم .
بعد أن أكل أبونا آدم وأمنا حواء ونحن معهما من تلك الشجرة المحرمة كشف الله سترهما وعَرّاهما ليعلما جريرة فعلتهما وعِظَم إثمهما فسعيا نحو شجر الجنة يأخذان من أوراقها ويستران عورتهما بها ، وبينما هما في ذلك الحال المُحْرِج ، إذ خاطب الله سبحانه وتعالى أبونا آدم بكلمات لم يعلم بها غير آدم عليه السلام ، اتصال سِرّيٌ خفي عن جميع خلق الله بين الله عز وجل وبين آدم ، كلمات فقط ، تكون جُمْلَةً واحدة ، جُمْلَةً تحتمل القبول أو الرفض ( التلقي = القبول / وعدم التلقي = الرفض ) ، يقول الله سبحانه وتعالى ( فتلقى آدم من ربه كلمات ) أي وافق على ماجاء في هذه الجملة ،
إذاً فتلك الكلمات كَوْنَت في مجملها جُمْلَةً شرطية " يُعتقد والله أعلم بأن معناها : إذا أردت أن أتوب عليك وأغفر لك وأن يرجع سترك إليك فعليك القبول بالهبوط إلى الدنيا للاستشفاء من هذا الإثم الذي ارتكبته " فكان قبول أبونا آدم عليه السلام سبباً في توبة الله عليه عندما قال سبحانه ( فتاب عليه ) [ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ]
وقد سبق هذه الآية الكريمة آية ذكر الله فيها أن آدم وذريته وإبليس وذريته سيهبطون إلى الأرض وسيكون بينهم عداوة وسيكون فيها فتن ومتاع إلى وقتٍ محدد ، والله سبحانه وتعالى عندما ذكر الهبوط والعداوة والمتاع في هذه الآية الكريمة كان إخبارٌ لنا بأن ذلك الأمر أمرٌ مُقَدَّرً مسبقا وأن الله يعلم ما سوف يكون قبل أن يكون ، حيث أتى بعدها آية التواصل بين الله سبحانه وبين آدم عليه السلام والتلقي أي قبول الشرط والتوبة .. ثم جاء في الآية التي تلتها إعلان الله سبحانه وتعالى أن إهبطوا منها جميعا ، آدم وذريته وإبليس فإذا جائكم من الله هداية فمن اتبع الهدى فلا خوفً عليه من العذاب ولن يناله الحُزْن في يوم الحساب ، أما من كفر وكذّب الرسل ولم ينتهج ما جاء من عند الله فهو من أصحاب النار الخالدين فيها ..قال تعالى ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
إنتهى
-- هذا والله تعالى أعلى وأعلم --
والحمد لله رب العالمين
تعليق وحوار
