top of page

الموضوع :
{ مُعْجِزَةٌ أنْجَبَتْ مُعْجِزَةً بِمُعْجِزَة }

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)

الكاتب   : خالد بن عايض الأسمري

اليوم     : الأحد

التاريخ : 20/ 04/ 1439 هـ

مختصر الموضوع :

بسم الله الرحمن الرحيم

بين قول الله عز وجل وبين قول البشر كأبعد مابين السماوات ولأرض ، ومقياس مابين صدق قول الله عز وجل وبين صدق قول البشر مثل مابين ماتراه عينك وتلمسه يدك وتذوقه بلسانك واقعا حقيقياً وبين ما تأكله وتشربه وتلمسه في المنام ( الحِلْم )

إن التأمل والتفكر والتدبر في هذا الموضوع اقتصر بشكل كامل على الآيات الكريمة من كلام الله عز وجل في سورة مريم دوناً عن أي كلام لأي مخلوق .. لذا فإن عليك أخي القاريء الكريم مسئولية الصِّدقُ مع نفسك بالدرجة الأولى ، وبأي حال كنت ( سواءً كنت متفق مع ماورد فيه أو مختلفٌ معه ) فلا تَحْرِمُ نفسك من البحث والتحقق في كل تفصيلة صغيرةً كانت أو كبيرة .. وأعلم أنه من أعظم حقوق ذاتك عليك ، أن تَسْتقَي العِلْم من مصدرٍ موثوقٌ بعيدٌ عن كل شبهة مهما صغرت أو كبرت... هل هناك من هو أصدق من الله رب العالمين ..؟

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله ذو الفضل والنِعَم ، جليلٌ جوادٌ عظيم الكرم ، نعبده سبحانه بِحُبٍ عظيم ، ونُخْلِص له وحده الدين القويم ، وصَلِّ اللهم على نبي الهُدَى ، رسول السلام لكل المدى ، وعلى آله طيبين الثرى ، وعلى صحبه الغُرِّ الميامين ، وعلى كافة أنبيائك ، وعلى رسلك أجمعين .. اللهم آمين


أما بعد


1)     أ - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
       ب - فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)  


        أ - إنتبذت : نبذت نفسها "والمنبوذ هو المطرود من الحي أو المدينة على أن  لا يرجع المنبوذ إلى المكان نفسه نهائياً .. أما مجرد الطرد المشروط بزمن محدد ثم يسمح للمطرود بعده بالعودة فلا يقال له نبذ إنما يقال له طرد "..  نبذوه أي طردوه عن المكان نهائياً بلا عودة ( والمنبوذ لا يكون في مكان قريب أو مجاور للمكان المنبوذ منه ، بل يبعد عادةً إلى أبعد مكان ممكن عن المكان المنبوذ منه )
                 فلماذا نبذت مريم عليها السلام نفسها وابتعدت عن قومها ..؟ 
                 ولماذا عزمت على  أن لا تعود إليهم ..؟ 
                 ولماذا اتجهت شرقاً بالتحديد ..؟


       ب - في خطاب قوم ( العذراء ) مريم بنت عِمران عليها السلام عندما عادت إليهم وهي تحمل عيسى عليه السلام ، يتهمونها بالسوء ( بالزنا ) وفي اتهامهم هذا دلالة على أن مُدًّةُ غيابها عن قومها دامت لأكثر من تسعة أشهر فترة الحمل والولادة ، ودليل ذلك اتهام قومها لها ومعايرتها باستنكار فعلها بقولهم ( ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيا ) يعني كيف تفعلين فعل الزنا وهو فعلٌ لم يفعله أبوك ولا أمك ولم تتربي على هذا الفعل المشين ؟ 
ولو كان مُدَّة اختفائها أقل من تسعة أشهر لما اتهموها بهذا الاتهام الخطير ، ولكانوا سألوها " أين وجدتي هذا الغلام ..؟"

2)     أ -  فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
       ب -  فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)
       ج -  فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)


       أ - لما حملت بعيسى عليه السلام ابتعدت إلى أقصى مكانٍ ممكن عن أهلها .. أي أنها زادت في بعد المسافة التي بينها وبين قومها فأصبحت بعيد جدا عنهم حتى لا يصادفها أحدهم ويراها على تلك الحال ولو بمحض الصدفة 

      ب - كثيرٌ من النساء يمتن بسبب عدم قدرة أجسادهن عن تحمل الآم الطلق والولادة وكثير منهن قد سبق لهن الإنجاب ، ويدل هذا على أن الآم المخاض شديدة ، فما بالنا بفتاة عذراء يأتيها المخاض وهي في مُعتزل ليس لديها من يساعدها أثناء الولادة .. بالتأكيد الآلام هنا مضاعفة وعظيمة القوة .. ونرى ذلك في أمنية الطاهرة ( مريم ) عندما تمنت لو أنها ماتت قبل هذا المخاض التي كانت تفوق طلقاته آلام سكرات الموت بالنسبة لها ...
                 لماذا لم يخفف الله عنها آلام المخاض وهي الحامل بكلمته سبحانه ..؟
                 لماذا لم يرسل الله سبحانه لها من يعينها على آلام الولادة بمساعدتها بتوفير أبسط الأمور لها كالماء مثلاً


       ج - وبرغم هذا يُنْطِق الله إبنها عيسى عليـه السـلام من تحتـها فيقـول لـها : هُـزّي إليـك بجذع النخلة تُساقط عليك رطباً جَنِيّا – أي مدي يديك إلى جذع النخلة التي لا يستطيع هزها عشرة رجال أقوياء ولو استطاعوا هزها ولو هزاً بسيطاً فلن يقدروا على هزها لتسقط عليهم بتمرة واحدةٍ فضلاُ عن الرطب الذي لا يسقط ولا ينفك من أقماعه بسهولة .. بينما يطلب منها عيسى عليه السلام أن تهز هذا الجذع ليسقط عليها رطباً ..
                هل بقي في مريم عليها السلام من قوةٍ لرفع يديها أو لمس الجذع فضلاً عن أن تهزه ؟
                من الذي أسقط الرطب من النخلة على مريم عليها السلام بقوتها أم النخلة نفسها ؟ ( تُسَاقِط عليك )

💠💠💠💠💠💠💠💠💠💠💠💠💠💠💠


إن مريم عليها السلام مُعْجِزةً في حد ذاتها ، أنجبت مُعْجِزَةً أخرى ، بِمُعْجِزَةً عظيمة ( عليها وعلى إبنها والسلام ) 
وكحال جميع المعجزات الإلاهية ، يَلُفُّ معجزات مريم وإبنها عليهما السلام كثير من الغموض الطبيعي الذي يصاحب كل معجزة أخرى ، غير أن غموض معجزات مريم وإبنها عليهما السلام تتميز عن غيرها من المعجزات بإمكانية التخيّل والقراءة للحكمة الإلاهية العظيمة من هذا الغموض 


فمثلاً : غموض أسباب إنتباذ مريم لنفسها عن قومها ، هذا الغموض الذي لم يتحدث عنه من نقلوا أخبار العذراء إلى من بعدهم ولم يدونوه في كتبهم ، ونعذرهم في ذلك حيث أن أسباب إنتباذها عن قومها ليست بتلك الأهمية أمام معجزة نطق الرضيع ، فذهب الاهتمام عن أسباب الانتباذ إلى معجزة نطق الرضيع . 
وغموض أسباب عدم تخفيف آلام الولادة عن مريم عليها السلام و أسباب مطالبتها بما يفوق المستحيل وهو هز جذع النخلة وهي في أشد حالات الضعف والوهن


وغموض المسافة بين منازل قوم مريم عليها السلام وبين مكان انتباذها الأول ثم مكان انتباذها الثاني ثم مكان النخلة ( مكان ولادة نبي الله عيسى ابن مريم : عليه منا سلام الله وبركاته )
وغموض مدة بقاء مريم عليها السلام بعيدةً عن قومها قبل أن تأتيهم بعيسى عليه السلام 

كل هذا الغموض وكل هذه الأسئلة التي تكتنف قصة عيسى عليه السلام ، إلاّ أن هذا الغموض يَحْمِل من الحِكم الإلاهية الشيء الكثير الكثير ..


      لو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر ، أي تساؤل من الأسئلة السابقة وطرحناه للتأمل والفكر والتدبر لأدركنا فيه من الحِكَم الشيء الكثير :- 

                س : هل بقي في مريم عليها السلام من قوةٍ لرفع يديها أو لمس الجذع فضلاً عن أن تقوم بهزه ؟


يأخذنا التعجب والحيرة عندما ننظر لهذا التساؤل للوهلة الأولى .. ثم تقودنا فطرتنا التي وهبنا الله إياها إلى تخيّل مدى وهن هذه الفتاة الضعيفة التي أسندت ظهرها إلى جذع النخلة من شدة التعب والإرهاق العظيمين ، لتسمع مولودها حديث الولادة وهو يطلب منها أن تهز النخلة ( تتساءل عليها السلام : وهل بقي لدي من قوة للتحرك ثم لرفع يدي وهز هذا الجذع العظيم ..؟ ثم ماذا لو قمت بهزه هل سيسقط علي تمر أو رطب كما قال لي هذا المولود ..؟ ) أسئلة دارت في نفس مريم قبل أن تقدم على هذه المغامرة العظيمة بالنسبة لها في ذلك الحال .. تقرر أخيراً بعد تردد دام لوقت الله يعلمه بين أن تقوم بهذه المغامرة فتتحرك بما بقي لديها من جهد وترفع يديها الواهنتين إلى جذع النخلة وتقوم بهزها ، وبين المنطق الذي يقول أن هذا من المستحيل .. فتفعل فيتساقط الرطب عليها 
تأخذها الدهشة والاستغراب وهي تمد يديها إلى الرطب المتساقط كيف لهذا أن يحدث ، فيأتينا الجواب العظيم من رب العالمين ليخبرنا أن الرطب لم يسقط بقوة هذه الفتاة الخائرة القوى ، إنما أسقطته النخلة بأمر الله وذلك في قوله سبحانه وتعالى ( تُسَاٌقِط ) أي الشجر هي التي تساقط رطبها عليها فتخرج لنا معجزةً عظيمة تُضاف إلى معجزات هذا النبي الكريم وأمّه الطاهرة فسبحانك اللهم يا من أمره إذا أراد شيء أن يقول له ( كن فيكون )

                 س : كم دام اختفاء مريم عليها السلام عن قومها قبل أن تأتيهم بطفلها ..؟


تأخذنا حيثيات القصة إلى أن مريم عليها السلام خرجت من عند قومها وهي نابذةً لهم مبتعدةً عنهم وفي قرارة نفسها أنها لن تعود إليهم فابتعدت مسافةً بعيدة عنهم بحيث أنهم لن يجدوها عندما يبحثون عنها وحرصت أن يكون مقرها الجديد ( مكيناً ) أي آمناً لا يمكن أن يصل إليه إنسان بسهولة ولا حيوان مفترس .. ولبثت هناك ما شاء الله لها أن تلبث ، ثم فاجأها ( الملك عليه السلام المرسل إليها من الله عز وجل ) فجزعت واستعاذت بالله الرحمن منه ثم دار بينهما الحديث الذي سبق في الآية الكريمة .. ولما وجدت نفسها قد بدأ حملها يظهر عليها خافت من أن يصادفها أحدا من قومها ولو بمحض الصدفة فزادت في الابتعاد عنهم بمضاعفة المسافة بينها وبينهم ، فغيرت مقر إقامتها إلى مكان أبعد .. ومن الطبيعي أنها بقيت في منفاها هذا مدة حملها التي دامت تسعة أشهر بحالٍ طبيعي كبقية البشر .. ولو كان حملها أقل من ذلك لأنكر القوم أن يكون هذا الرضيع إبنها ، فهم لم ينكروا أنه إبنها لأن المدة التي قضتها بعيدةً عنهم مدة كافية لتحمل وتلد .. ولكنهم أنكروا عليها أنها أنجبت من دون أن تتزوج ... ثم أنجبت إبنها في منفاها وبقيت هناك مدةً كافية لتسترجع قواها وتسترد عافيتها فأمامها طريق طويلة وسفر للعودة إلى قومها الذين انتبذت عنهم مرتين ، وهذه المدة ممكن أن تقاس بالنسبة للحيثيات التي بين يدينا ( فتاة واهنة جراء الولادة + مسافة بعيدة للعودة إلى البيت + حمل مئونة السفر من مأكل ومشرب بالإضافة لحمل رضيعها ) كل هذا يجعلنا نقدر الوقت بما يزيد عن الشهر تقريبا أو قد يقل قليلاً أو يزيد قليلا .. 


إذا فمن الطبيعي أن تكون المدة التي قضتها مريم عليها السلام قبل أن تعود إلى قومها هي عشرة أشهر كأقل تقدير بالإضافة للمدة التي قضتها في مقرها الأول قبل أن تقابل الملك عليه السلام . 

ختاماً ليست هذه كل التساؤلات وليس هذا كل الغموض وليست هذه كل المعجزات ، فعيسى عليه السلام كَـنَّـفَـهُ الله بمعجزات كثيرةً جداً امتدت من قبل أن يولد عليه السلام وستمتد حتى بعد نزوله وعودته إلى الأرض بإذن الله تعالى في الوقت الذي قرر الله سبحانه أن ينزله ..

هذا وصل اللهم على نبينا الهادي محمد وعلى آله وأصحابه وعلى كافة أنبيائك وعلى رسلك أجمعين

اللهم آمين
والحمد لله رب العالمين

 

 

أخوكم في الله
خالد بن عايض الأسمري

photo
photo

تعليق وحوار

photo
bottom of page